فصل: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} الآية: (178):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وفي قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} (164):

دلالة على إباحة ركوب البحر تاجرا وغازيا، وطالبا صنوف المآرب.
وقال في موضع آخر: {هو الّذي يسيّركم في البرّ والبحر}. وقال: {ربكم الّذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله}.
فقد انتظم التجارة وغيرها، كقوله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.

.قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} (173):

عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام اللّه تعالى بالسنة، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد».
وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط: فإن البحر ألقى إليهم حوتا أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني؟
وبالجملة: الخبر عام، وأيضا الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي، لم يصح الاستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب.
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ}.
وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة.
واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال في حديث صفوان بن سليمان الزرقي. عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالتبت، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد اللّه بن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول اللّه عليه السلام، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد روى زياد بن عبد اللّه البكائي قال: حدثنا سليمان الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: «البحر الذكي صيده، والطهور ماؤه».
وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول.
وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن مسلم بن إبراهيم، عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال له في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
قال أبو بكر الرازي، وهو الذي روى هذه الأخبار:
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال أنبأنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال: حدثنا إسحاق بن حازم، عن عبيد اللّه بن مقسم، عن جابر، عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول: إنه من آل ابن الأزرق، ويقول: إن المغيرة بن أبي بردة- وهو من بني عبد الدار- أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر؟ فقال عليه السلام: «البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
قال أبو عيسى: وفي الباب عن جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح.
وروى الرازي عن علي أنه قال: «ما طفا من صيد البحر فلا تأكله».
وروى أيضا عن جابر وابن عباس كراهة الطافي.
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك.
وروى الرازي في أحكام القرآن- بإسناد له متصل عن جابر- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه».
وروي بإسناد آخر عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ما جزر البحر عنه فكل، وما ألقي فكل، وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل».
وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إذا صدتموه وهو حي فكلوه، وما ألقى البحر حيا فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه».
وروي بإسناد آخر عن جابر: «ما وجدتموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر طافيا ميتا فلا تأكلوه».
وروى سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفا على جابر.
وبالجملة: هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب اللّه تعالى، ويقابله أن عموم كتاب اللّه تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولا به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولا به في الطافي.
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال: «كل مما طفا على البحر».
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته.
وقال شعبة: لأن أزني سبعين زنية أحب إليّ من أن أروى عن ابان ابن أبي عياش.
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد، ومستنده قوله عليه السلام: «أحلت لنا ميتتان»، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة، مع أن مالكا يقول في الجراد أنه إذا أخذ حيا وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتا قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول الزهري وربيعة.
وقال مالك: ما قتله مجوسي فلا يؤكل.
وقال الليث بن سعد: أكره الجراد ميتا، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به وقال النبي عليه السلام في الجراد: «أكثر جنود اللّه: لا آكله ولا أحرمه» ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه.
وقال عطاء عن جابر: غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه.
وقال عبد اللّه بن أبي أوفى: «غزوت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره».
وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأكله».
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد، ومذهب أبي حنيفة في الطافي.
ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين، وأي أثر للآدمي واصطياده؟
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفة، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي.
ومالك يقول: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل: وهو قول سعيد بن المسيب، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة، فيبقى على عموم تحريم الميتة.
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حيا فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة.
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وبعد حملها على أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنينا، وإذا تم خرج حيا وفيه حياة مستقرة، فلا يخفى حكم الذكاة، فلا يكون في ذكره فائدة.
وقد روى مجالد عن أبي الوداك، عن أبي سعيد أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال: «إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه».
وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء، عن أبيه، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت.
وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقولون: «إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه».
والشافعي يقول: نحن نقول بهما جميعا، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيها على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءا من الأم.
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لو لا الخبر المخصّص واقتضى ظاهر الآية أيضا تحريم الانتفاع بدهن الميتة، وروى فيه محمد ابن إسحاق، عن عطاء، عن جابر قال: إن ما حرم أكلها ورواه البخاري في الزكاة ومسلم وشرح النووي كتاب الحيض وفي رواية لمسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون ذالأوداك فقالوا: يا رسول اللّه، إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة وغيرها، وإنما هي للأدم والسفن، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن اللّه اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» فبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: أن اللّه تعالى إذا حرم شيئا حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع.
وذكر عن عطاء أنه قال: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب أبي حنيفة أن تحريم اللّه تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها، ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافا إلى العين.
قال الشافعي رحمه اللّه: ينبغي من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} تحريم لبنها، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق بمع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلا، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها.
وله أن يقول: إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقا ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجسا بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها.
والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.

.قوله تعالى: {وَالدَّمَ}:

أوجب تحريم الدم مطلقا، وقال في موضع آخر: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم.
وقال تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} بعد قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقال: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}- إلى قوله- {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فخص اللحم بالذكر، ولم يقل حرمت الخنزير كما قال: حرمت الميتة لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد مع تحريم جميع الأفعال في الصيد. ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم.
فقيل لهم: فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيها على الإجزاء؟
فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم.

.قوله تعالى: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (173):

ولا يرى ذلك أصحابنا محرما إلا من جهة الإعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب، والمشرك وإن ذبح على اسم اللّه تعالى لا يحل.
ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح، وليس بصحيح، فإن اللّه تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى اللّه عز وجل: {ثالث ثلاثة} فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده، وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهرا بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الإعتقاد القبيح.

.قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} (173):

يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل، ويحتمل العدوان بالسفر، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.
ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فإنه عام.
ويشهد للقول الآخر قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا.
وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا.

.قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} الآية: (178):

ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول، إذ قول القائل: «الحر بالحر والعبد بالعبد» لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه.
قالوا: أمكن أن يقال: كتب عليكم القصاص مطلقا، وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: «إن من أعنى الناس على اللّه تعالى يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية».
والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} وكيفيته {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية.
فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.
ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقا من الجانبين إلا في النفس.
وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص.
وقال الليث بن سعد: إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد.
وقال: إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء.
وقال قائلون من علماء السلف: يقتل السيد بعبده.
وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص..، ورووا عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه».
والذي ينفيه يقول: إنما جعل اللّه تعالى للولي السلطان في القصاص، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالا من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتا للمسلمين إرثا، ولا يمكن ذلك في حق العبد.
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي عليه السلام، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به.
ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق.
ولهم أن يقولوا: وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافرا، أو أباح العبد له دم نفسه.
وقال الشافعي: يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي، إلا أن الليث بن سعد قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه بها، وكأنه رأي أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص.
وقال عثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلا قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء.
وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات.
ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص.
وقال عليه السلام: «من قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية»، ولم يذكر التخيير.
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى}. ومساق ذلك يدل على الإختصاص بالمسلم، فإنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا يكون الكافر أخا للمسلم، وقال: {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}.
وأما قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا}. فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية.
وأما قوله: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها}. فإخبار عن شريعة من قبلنا فلا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية، إلا أنه يضعف.
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلما بكافر، وقال: «أنا آخر من وفى بذمته»، وهما مرسلان لم يلقيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر» على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام: «ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده»، فكان ذلك تفسيرا لقوله عليه السلام: «كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين».
لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وذكر أهل المغازي أن عقد الذمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلّى اللّه عليه وسلم والمشركين عهود إلى مدد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة: «لا يقتل مؤمن بكافر» منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه.
ويدل عليه قوله عليه السلام: «و لا ذو عهد في عهده»، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة، ولذلك قال: «و لا ذو عهد في عهده»، كما قال اللّه تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} وقال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
وكان المشركون حينئذ ضربين:
أحدهما: أهل الحرب، والآخر: أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين.
وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة.
وقال عثمان البتي: يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروى مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «لا يقتل والد بولده».
وقال الجصاص: هذا خبر مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه. ورواه أحمد والنسائي كما في زاد المعاد.
وحكم به عمر بمحضر من الصحابة، واشتهر بينهم، فكان كقوله: «لا وصية لوارث» في الاشتهار.
وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثل الأول.
وروى ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد».
ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا}. الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعا، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركا.
ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا للّه ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول.
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلما فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد.
وإذا قدر ذلك تعظيما للقتل، فإذا قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فالمخطئ في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطأ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع، وثبوت حكم العمد للجميع، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش لشيء منها.
وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أبا فلا قصاص على الأجنبي، فإن المحل متى كان واحدا وخرج فعل الأب عن كونه موجبا لأنه لم يصادف المحل، صار أيضا الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.
وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمدا موجبا للمال والقود في حالة واحدة، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.
وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما.
فإن قيل: فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه.
قيل: ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجنى عليه، واستحاله تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ، لو لا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعا؟
فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ، فلذلك توزعت الدية عليهم.